فصل: تلقي النبي القرآن عن جبريل وهو على ملكيته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.كيف كان يتلقّى النبي الوحي:

كان النبي صلوات الله وسلامه عليه يتلقى عن جبريل عليه السلام على حالتين:
1- أن ينسلخ النبي صلى الله عليه وسلم من حالته الشريفة العادية، إلى حالة أخرى، بها يحصل له استعداد، لتلقي الوحي من جبريل عليه السلام، وهو على حالته الملكية وفي هذه الحالة قد يسمع عند مجيء الوحي صوت شديد كصلصلة الجرس.. وأحيانا يسمع الحاضرون صوتا عند مجيء الوحي كدويّ النحل.. وتأخذ النبي صلى الله عليه وسلم حالة شديدة روحانية، يغيب فيها عما حوله، ويثقل جسمه، حتى لتكاد الناقة التي يركبها تبرك، وإذا جاءت فخذه على فخذ إنسان تكاد ترضّها ويتصبب عرقه، وربما يسمع له غطيط كغطيط النائم، فإذا ما سرّي عنه وجد نفسه واعيا لكل ما سمع من الوحي فيبلغه كما سمعه، وهذه الحالة أشد حالات الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويشير إلى هذا قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]؛ وعلى هذه الحالة تلقى القرآن.
2- أن يتحول جبريل عليه السلام من الملكية إلى الصورة البشرية، فيأتي في صورة رجل، فيأخذ عنه الرسول ويسمع منه.. وكثيرا ما كان جبريل عليه السلام يأتي في هذه الحالة في صورة دحية الكلبي، أو صورة أعرابي لا يعرف، وهذه الحالة أهون الحالين على الرسول. يدل على هاتين الحالين: ما رواه البخاري، في صحيحه بسنده عن عائشة رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني، وقد وعيت منه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا، فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، وأن جبينه ليتفصّد عرقا. وإنما اكتفى النبي في الجواب بهاتين الكيفيتين دون غيرهما من الكيفيات والأنواع؛ لأن الظاهر أن السؤال كان على الوحي الذي يأتي عن طريق جبريل.
والقرآن الكريم لم ينزل منه شيء إلا عن طريق جبريل عليه السلام ولم يأت شيء منه عن تكليم أو إلهام أو منام، بل كله أوحي به في اليقظة وحيا جليّا، ولا يخالف هذا ما ورد في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة.. ثم رفع رأسه مبتسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله فقال: «إنه نزل عليّ آنفا سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}» [سورة الكوثر].
إذ ليس المقصود بـ الإغفاءة في الحديث: النوم، وإنما المقصود: الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحي، وهي الغيبوبة عما حوله.
وقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا، وبهذا يفسّر أيضا ما ورد في بعض روايات هذا الحديث: أنه أغمي عليه.
وقال السيوطي في الإتقان بعد أن ذكر أن من كيفيّات الوحي تكليم الله إما في اليقظة وإما في المنام: وليس في القرآن من هذا النوع شيء فيما أعلم نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة لما تقدم، وبعض سورة الضحى وألم نشرح، فقد أخرج ابن أبي حاتم من حديث عديّ بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته، فقلت: أي رب، اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، فقال: يا محمد، ألم أجدك يتيما فآويت، وضالا فهديت، وعائلا فأغنيت، وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معي».
وما أشار إليه فيما تقدّم: هو ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى..
الحديث وفيه: فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ثلاثا، أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك- من أمته- بالله شيئا.. المقحمات.. وفي الكامل للهذليّ: نزلت آمَنَ الرَّسُولُ إلى آخرها بقاب قوسين.
وأعقب على ما ذهب إليه الإمام السيوطي إمكانا: بأن رواية مسلم ليس فيها تصريح بنزول خواتيم سورة البقرة عن طريق تكليم الله، فلعلّ المراد بإعطائه إيّاها: إعلام الله له باختصاصه صلى الله عليه وسلم وأمته بما تدلّ عليه؛ تمنّنا عليه في هذا الموقف العظيم.. ألا ترى أنه أعطي الصلوات الخمس، وفرضت مع أنها لم ينزل فيها قرآن هذه الليلة! وليس في رواية الهذليّ على فرض صحّتها التصريح بنزول الآيتين عن طريق التكليم.
وأيضا فالإسراء والمعراج كان قبل الهجرة بمكة، وسورة البقرة كلها مدنية، فكيف تنزل خواتيمها بمكة!
وأما حديث عدي بن ثابت الذي أخرجه ابن أبي حاتم، فليس فيه أن الله أنزل هذه الآيات وإنما كل ما فيه: التمنن عليه بالمنن التي ذكرت في هذه الآيات، ولاسيما وألفاظ الحديث مغايرة للنص القرآني للآيات، مما يستبعد معه أن تكون الآيات نزلت في هذا التكليم، والظاهر أن السورتين نزلتا قبل ذلك؛ لأن التمنن إنما يكون بأمر معروف معلوم للمخاطب.
فالحق ما قاله الإمام السيوطي أولا، وهو أنه ليس في القرآن من هذا النوع شيء.

.تلقي النبي القرآن عن جبريل وهو على ملكيته:

والذي نقطع به والله أعلم أن القرآن الكريم كله نزل في الحالة الأولى، وهي الحالة التي يكون فيها جبريل على ملكيته، وتحول النبي صلى الله عليه وسلم من البشرية إلى الملائكية، وهذا هو الذي يليق بالقرآن الكريم، ونفي أي احتمال، أو تلبيس في تلقيه، ولم أقف قط على رواية تفيد نزول شيء من القرآن عن طريق جبريل، وهو في صورة رجل، وكل ما جاء من ذلك في الأحاديث الصحاح كحديث جبريل المشهور وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، والساعة وأشراطها، فإنما هو في وحي السنة لا في وحي القرآن.
نعم هناك قرائن لا تصل إلى حد الأدلة تدل على نزول القرآن بالطريق الأول، فمن ذلك قول الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] أي ثقيلا تلقيه، وثقيلا علمه، وذلك إنما يكون في الحالة التي تسود فيها الملائكية عند تلقي الوحي، وقيل: ثقيلا العمل به، والقيام بفرائضه وحدوده، وقيل: ثقيل من الوجهين معا.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه... وهذه الشدّة لن تكون إلا في الحالة الأولى.
وروى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: هل تحسّ بالوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسمع صلاصل، ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إليّ إلّا ظننت أن نفسي تقبض» رواه أحمد، وروى ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تحرك حتى يسرّى عنه، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فكادت ترضّ فخذي، رواه البخاري في الصحيح.
وأيضا فلو أنزل شيء من القرآن في الحالة الثانية وهي مجيء جبريل عليه السلام في صورة رجل لكان هذا مثارا للشك، والتلبيس على ضعفاء الإيمان، ولكان فيه مستند للمشركين في قولهم: {إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ...}.
وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى هذا في قوله حكاية لمقالة المشركين وردّا عليهم: {وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8- 9]، فكان من الرحمة بالعباد، وعدم التلبيس عليهم أن لا ينزل القرآن إلا في هذا الجو الملائكيّ، الروحانيّ.

.ما الذي نزل به جبريل على النبي:

الذي نقطع به، أن القرآن الكريم كلام الله سبحانه، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [سورة التوبة: 5]، وأن القرآن لفظه ومعناه من عند الله سبحانه قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الزمر: 1]، {حم * تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [سورة غافر: 1- 2]، وقال: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [سورة الإسراء: 105].
وأن الذي نزل به هو أمين الوحي جبريل عليه السلام قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} وأن الذي نزل به جبريل هو هذا اللفظ العربي من غير أن يكون له فيه شيء ما، ومن غير أن يزيد فيه حرفا، أو ينقص منه حرفا.
وكذلك ليس للنبي صلى الله عليه وسلم في القرآن شيء إلا التبليغ، وهذا هو الحق الذي يجب على كل مسلم أن يعتقده ويؤمن به، ولا تلتفت إلى ما زعمه بعض من يهرف بما لا يعرف، أو من يفتري ويختلق؛ من أن جبريل أوحي إليه المعنى، وأنه عبر بهذه الألفاظ الدالة على المعاني بلغة العرب ثم نزل على النبي كذلك، أو أن جبريل أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم المعنى، وأن النبي عبر عن هذه المعاني بلفظ من عنده، متمسّكا بظاهر قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [سورة الشعراء 193- 195]، فإنه زعم وخرص لم تقم عليه أثارة من علم، وما تمسك به هذا الزاعم من الآية لا يشهد له؛ فإن القلب كما ينزل عليه المعنى، ينزل عليه اللفظ، وإنما آثر الحق تبارك وتعالى هذا التعبير للدلالة على أن القرآن كما وعته الأذنان، وعاه القلب اليقظان.
وهذا القول خلاف ما تواتر عليه القرآن والسنة، وانعقد عليه إجماع الأئمة: من أن القرآن- لفظه ومعناه- كلام الله، ومن عند الله، ولو جاز الزعم لما كان القرآن معجزا، ولما كان متعبّدا بتلاوته.
وهذا الزعم لا يقول به إلا جاهل استولت عليه الغفلة، أو زنديق يدسّ في الدين والعلم ما ليس منه، ولا تغتر بوجوده في بعض الكتب الإسلامية فأغلب الظن: أنه مدسوس على الإسلام والمسلمين.
وإنا لنبرأ إلى الله أن يقول هذا عالم مسلم، متثبّت.
وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كما نزل إلى الأمة من غير زيادة ولا نقصان، ولا تحريف ولا تبديل، ولا كتمان لشيء منه، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي، لكتم الآيات التي فيها عتاب له وتنبيه بلطف إلى ترك الأولى في باب الاجتهاد، وبحسبك أن تقرأ معي قول الله عز وجل: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ} [سورة المائدة: 67]، وقول الله سبحانه: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15]، وقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} [الحاقة: 44- 47].